Friday, 28 June 2019

ميت الأحياء

ميت الأحياء

بقلم: فاروق مواسي

بروفيسور، أديب، وأكاديمي فلسطيني، دكتوراة في الأدب العربي
من القائل، وما المعنى:
ليس من مات فاستراح بميْتٍ 
إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياء

المعنى أن الذي لفظ أنفاسه ورحل عن العالم واستراح من الحياة الدنيا لا يعتبر ميْتًا، فالميْت حقًا هو ذلك الذي يعيش بين الناس كئيبًا خائبًا يائسًا، فلا أثر له ولا فعالية، أو كأنه غير كائن، فوجوده وعدمه سيّان.
يرد البيت التالي ليوضّح من هو الميْت:
إنما الميْتُ من يعيش كئيبًا 
كاسفًا باله قليلَ الرجاء

وهذا المعنى قريب مما أورده أبو العتاهية:
من الناس ميْت وهو حيّ بذكره 
وحيٌّ سليمٌ وهو بالناس ميّتُ
فأمَّا الذي قَدْ ماتَ والذِكرُ ناشرٌ 
فمَيْتٌ لهُ دينٌ، بهِ الفضْلُ يُنعَتُ
(ديوان أبي العتاهية، ص 75.)

أما الشاعر فهو على الأرجح عَدِيّ بن الرَّعلاء الغسّاني، وهو شاعر جاهلي اشتهر باسم أمّه الرعلاء (معنى اللفظة- الناقة التي تُقطع قطعة من أذنها وتترك تنوس، وقد قال الشعر "يوم حليمة") – انظر كتاب (الاشتقاق) لابن دريد، ص 51.
ذكرت مصادر كثيرة غيره أن البيت لابن الرعلاء، ومنها (كتاب الصناعتين) لأبي هلال العسكري، ص 315 – في موضوع المطابقة، و(خزانة الأدب) للبغدادي ج9، ص 582 فهو يذكر أن نهاية البيت الثاني (كاسفًا بالُه قليلَ الرَّخاء)، وهو يطابق ما ورد في (معجم الشعراء) للمرزباني ، ص 252.
لكن هناك من ذكر الشعر على أنه لصالح بن عبد القدوس (ديوان صالح بن عبد القدوس- تحقيق د. عباس الترجمان، ص 101، بل وجدت في هذا المصدر وفي الصفحة نفسها ما هو جدير بالذكر:
"نقل الشيخ الطوسي في أماليه 1/316 بإسناده عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ليس من مات فاستراح بميت 
إنما الميت ميت الأحياء"

(بالطبع فإن هذا القول بحاجة إلى تحقيق واستقصاء).
كما ذكر ياقوت الحموي في (معجم الأدباء)- ج12، ص 9 وفي ترجمة الشاعر صالح بن عبد القدوس أن البيتين هما له.
وكذلك ذكر البحتري في حماسته أنهما لصالح بن عبد القدوس. (ص 214)
وقد استشهد البحتريّ بالبيت الأول في هجائية له:
شاهدي في بيان موتك بيت 
قاله شاعر من الشعراء
ليس من مات فاستراح بميْتٍ 
إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياء

(الديوان ج1، ص 49- تحقيق حسن الصيرفي)
أما الثعالبي في (يتيمة الدهر) ج2، ص 91، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد فينسب البيت الأول لأحمد بن محمد بن عبد ربه (صاحب العقد)، إذ يقول:
أيها اللائمون ماذا عليكم 
أن تعيشوا وأن أموت بدائي
"ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء"

بالطبع لم يكن في كتابة ابن عبد ربه إشارات الاقتباس، فجاء المحقق عبد الحميد، ووضعها على مسئوليته، وبذلك ينفي أن يكون البيت لابن عبد ربه!
من غريب الشرح أن البكري في كتاب (اللآلي في شرح أمالي القالي) يقول:
وقالوا للمفلس "ميت الأحياء"، فيقول:

"وهذان البيتان لابن الرعلاء الغساني، فلما جاز أن يسمي الفقر موتًا ويجعل نقصًا من الحياة جاز أن يسمى الغنى حياة، ويجعل زيادة في العمر" – ص 144.
وجولة في اللغة:
ميْـت و مـيِّـت
هناك من يمايز بين (ميْت) ساكنة الياء وبين (ميِّت) مشددة الياء، فيقول إن (الميْت) هو الذي مات، بينما (الميِّت) هو الذي سيموت إن آجلاً أو عاجلاً، بدليل قوله تعالى مخاطبًا رسوله الكريم:
إنك ميِّتٌ وإنهم ميِّتون- الزمر، 30، من هنا يخطّئ زهدي جار الله في كتابه (الكتابة الصحيحة) ، ص 339، فيقول:

إن الخطأ في قولنا "نقلوا الميِّت إلى المقبرة"، والصواب هو (الميْت) لأن الأولى تعني الذي سيموت.
وقد أورد في ذلك عباس أبو السعود بيتين اقتبسهما في كتابه (شموس العرفان بلغة القرآن)، ص 139، هما:
أيا سائلي تفسير (ميْت) وميِّتٍ)
فدونك قد فسّرت إن كنت تعقل
فمن كان ذو روح فذلك (ميّت) 
وما (الميْت) إلا من إلى القبر يُحمل

يبدو أن ابن الرعلاء التزم بالمعنى في قوله (ميِّت الأحياء):
ليس من مات فاستراح بميْت 
إنما الميْت ميِّت الأحياء

فالميّت الحقيقي هو الذي سيموت وهو حي بين الأحياء.
في القرآن نجد ما يشفع لذلك بالإضافة إلى الآية التي اعتمد عليها جار الله، حيث نجد مثل هذا في قوله تعالى: ..أو كان ميْتًا فأحييناه...- الأنعام، 73، وفي قوله أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميْتًا" – الزخرف 11.
لكنا من جهة أخرى نجد في القرآن لفظة (الميِّت) بمعنى الميْت المائت حقًا، ومن ذلك كثرت الآيات التي فيها يخرج الحيّ من الميّت، ويخرج الميِّت من الحي- مثلاً في سورة الروم، 19، ومن الآيات فسقناه إلى بلد ميّت)- فاطر، 9.
جاء في الصحاح للجوهري في مادة "موت":
"فهو ميْت وميِّت، وقوم موتى وأموات، وميّتون وميْتون"- دون أن يفرّق بين الكلمتين.
وهذا ما ذهب إليه معجم (الوسيط) – الميّت: الميْت الذي فارق الحياة، وقبله ذكر (المنجد) أن الميّت هو الميْت.
أخلص إلى القول: الميْت هو الذي مات فعلاً.
والميِّت تحتمل معنيين: الذي سيموت أو الذي مات فعلاً.

No comments:

Post a Comment