تحدث الفقهاء عن عقوبة الجاسوس، فقالت المالكية والحنابلة وغيرهم: يقتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى عدم قتله، وإنما يعاقب تعزيراً، إلا إن تظاهر على الإسلام فيقتل، أو ترتب على جاسوسيته قتل، ومثله الذمي. وإن كان كافراً يقتل في حال الحرب، وكذلك في حال السلم إن كان هناك عهد لأنّه نقض للعهد.
وقد ورد في السنة ما يدل على قتل الجاسوس مطلقا، قال: وعن سلمة بن الأكوع قال: «أُتي النبي[ عينٌ من المشركين وهو في سفر فجلس عند أصحابه، ثم انسل، فقال[: «اطلبوه فاقتلوه» قال: فسبقتهم إليه فقتلته، وأخذت سلبه، فنفلني إياه».(البخاري3/1110، أبو داود 3/48). وقوله: «أتى النبي [ عين» في رواية لمسلم أن ذلك كان في غزوة هوازن، وسمّي الجاسوس عيناً لأنّ عمله بعينه أو لشدة اهتمامه بالرؤية واستغراقه فيها كأن جميع بدنه صار عينا.
وفي الحديث دليل على أنه يجوز قتل الجاسوس. قال النووي: فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر وهو باتفاق.
وأما المعاهد والذمي فقال مالك و الأوزاعي: «ينتقض عهده بذلك»، وعند الشافعية خلاف ذلك. أما لو شرط عليه ذلك في عهده فينتقض اتفاقا. وحديث فرات المذكور في الباب يدل على جواز قتل الجاسوس الذمي. وذهبت الهادوية إلى أنه يقتل جاسوس الكفار والبغاة إذا كان قد قتل أو حصل القتل بسببه وكانت الحرب قائمة، وإذا اختل شيء من ذلك حبس فقط.
وأمر النبي [ بقتل المرأة التي حملت كتاب حاطب إلى كفار قريش عام الفتح دون أن تُستتاب. كما في الحديث عن سعد بن أبي وقاص قال:» لما كان يوم فتح مكة، أمَّن رسول الله [ الناس إلا أربعة نفر، وامرأتين، ومن هاتين المرأتين هذه المرأة التي حملت رسالة حاطب إلى كفار قريش، واسمها سارة».
وروي عن الإمام مالك بن أنس قوله: «الجاسوس المسلم الحكم الشرعي فيه القتل مطلقا لإضراره بالمسلمين، وسعيه بالفساد في الأرض، وهو حد الحرابة». (تفسير القرطبي 18/50- 53)، ووافقه بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. وذلك في كتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزي، وقال ابن الماجشون من المالكية: «إذا كانت تلك عادته قُتل لأنه جاسوس».
يقول ابن تيمية: «وأما مالك وغيره فحكى عنه أن من الجرائم ما يبلغ به القتل، ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين... فإن أحمد يتوقف في قتله، وجوز مالك وبعض الحنابلة كابن عقيل قتله، ومنعه أبو حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى». (السياسة الشرعية ص115-114،مجموع الفتاوى 35/405،345).
وجاء في كتاب ( تبصرة الحكام) لابن فرحون المالكي قال سحنون من المالكية: «إذا كاتب المسلم أهل الحرب قتل ولم يستتب، ولا دية لورثته كالمحارب». (أي لم تطلب منه التوبة كما تطلب من المرتد). وقال ابن القاسم:» يقتل، ولا يعرف لهذا توبة، وهو كالزنديق». (أقضية الرسول[، لمحمد بن فرَج ص191). وقال غيرهما من أصحاب مالك:» يجلد جلداً وجيعاً، ويطال حبسه، وينفى من موضع يقرب من الكفار».
وقد أجاز الحنفية قتله سياسة، كما أجازوا قتل الساحر والزنديق الداعي؛ لأن كلا منهم يفسد في الأرض بسعيه في إفساد عقيدتهم... وقد جاء في: (تنقيح الحامدية) من كتب الحنفية ما نصه:«سئل في رجل عدائي- كثير الاعتداء - مفسد غمَّاز يسعى في الأرض بالفساد، ويوقع الشر بين العباد، ويغرى على أخذ الأموال بالباطل، وذبح العباد ويؤذي المسلمين بيده ولسانه، ولا يرتدع عن تلك الأفعال إلا بالقتل فما حكمه؟
فأجاب صاحب التنقيح بأنّه إذا كان كذلك وأخبر جمع من المسلمين بذلك يُقتل، ويثاب قاتله؛ لما فيه من دفع شره عن عباد الله».
وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في كتابه القيم : (قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/ 19): إن «ما يسببه الجاسوس- الجاسوس الذي ظاهره الإسلام - أعظم عند الله من التولي يوم الزحف بغير عذر».
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اختياراته: «من جمز إلى معسكر التتر، ولحق بهم ارتد، وحل ماله ودمه». نقلا عن : (الدرر السنية 8/338، ومجموعة الرسائل النجدية 3/35)، وعلق الشيخ رشيد رضا في الحاشية بقوله: «وكذا كل من لحق بالكفار المحاربين للمسلمين وأعانهم عليهم، وهو صريح قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}» .
وقال ابن القيم: « فيه جواز قتل الجاسوس، وإن كان مسلما، والعفو عن حاطب؛ لأنّ اللّه قد غفر لأهل بدر وهو منهم، فمن لم يكن كذلك جاز قتله، وهو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل، وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجان بقصة حاطب. والصحيح أنّ قتله راجع إلى رأى الإمام: فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان بقاؤه أصلح استبقاه. وهو رأى معقول يرجع فيه لتقدير المسؤولين ومصلحة الأمة، وقتله إما حداً وإما تعزيراً، وآية المحاربة والإفساد في الأرض فيها متسع للآراء». (زاد المعاد في هدي خير العباد 2/170).
وقال: «يجوز قتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله، وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد واختاره ابن عقيل» (الطرق الحكمية ص 156).
وقال في الجاسوس الذمي: «الجاسوس عين المشركين وأعداء المسلمين، وقد شرط على أهل الذمة ألا يؤووه في كنائسهم ومنازلهم، فإن فعلوا انتقض عهدهم وحلت دماؤهم وأموالهم، وهل يحتاج ثبوت ذلك إلى اشتراط إمام العصر له على أهل الذمة أم يكفي شرط عمر رضي الله عنه على قولين معروفين للفقهاء»(أحكام أهل الذمة ص1233) .
وقال ابن القيم: «واستدل به من يرى قتله كمالك وابن عقيل من أصحاب أحمد وغيرهما، قالوا: «لأنّه علل بعلة مانعة من القتل منتفية في غيره، ولو كان الإسلام مانعًا من قتله لم يعلل بأخص منه؛ لأن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير. وهذا أقوى». ( زاد المعاد 2/170).
وقال الشوكاني تعقيبا على حديث فعل حاطب بن أبي بلتعة، وفي الحديث دليل على أنه يجوز قتل الجاسوس، وأن فيه متمسكًا لمن قالوا: إنه يجوز قتل الجاسوس، ولو كان من المسلمين». (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 8/166- 165).
والأصل أن قتل العملاء والعميلات هو من اختصاص الدولة الإسلامية، حتى لا تحدث الفوضى والتجاوزات، ويجب التثبت من عمالة المتهمين بالعمالة والخيانة، حتى لا يحكم على الناس بالظن، ويحكم على الرجل أو المرأة بالعمالة بشهادته وإقراره، أو بشهادة رجلي عدل، حيث قال رسول الله[: «ادرؤوا الحدود بالشبهات».
No comments:
Post a Comment